وصف مصر بعد الثورة... بقلم فهمي هويدي

وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء

رمز الخبر: ۱۱۸
تأريخ النشر:  ۱۵:۲۸  - الأربعاء  ۰۶  ‫فبرایر‬  ۲۰۱۳ 
ما عاد لدينا أمل كبير في أن ننتقل إلى الأفضل في الوقت الراهن. لذلك أزعم أن واجب الوقت يدعونا لأن نكثف جهودنا لئلا نتراجع إلى الأسوأ.
على الأقل فقد كانت تلك رسالة بداية العام الثالث للثورة. التي أقنعتنا بأن أوان الإقلاع إلى المستقبل لم يحن بعد، وأننا لسنا جاهزين للانخراط في تلك الرحلة.
 بل نبهتنا إلى أننا إذا تطلعنا في مرآة الأسبوع الأول من السنة الثالثة للثورة وتفرسنا في وجوهنا جيدا فسوف نكتشف أننا يجب أن نعيد النظر في هيأتنا ـ في أدائنا وخطابنا لكي نستوفى شروط تأهيل الحاضر للالتحاق بالمستقبل، وهذا منطوق يحتاج إلى تحرير وتفسير.
لقد أسدل ستار الأسبوع الأول على مشهد الرجل الذي سحلته الشرطة عاريا، وهو ما صدمنا وأثار اشمئزازنا وأعاد إلى أذهاننا صورة زمن ظننا أننا تجاوزناه.
حدث ذلك وسط حالة من الغضب والانفلات الذي وضع مصر على حافة الفوضى، الأمر الذي دفع وزيري الدفاع والداخلية إلى التحذير من احتمالات انهيار الدولة، إذا استمرت الأوضاع على ذلك النحو.
وإزاء ذلك فإن جوقة النائحين أطلقت فاصلا جديدا من العويل والولولة نعت فيه الثورة وصبت اللعنات على السلطة ومن لف لفها. ليس ذلك فحسب، وإنما وجدنا أبواقا عدة في بعض الأقطار العربية هللت لما جرى، وحذرت من مغبة المصير البائس الذي حل بأم الدنيا حين اختارت طريق الثورة، في حين اصطنعت دموع الحزن والأسى لما أصاب «الشقيقة الكبرى»!
جميعهم ـ النائحون والشامتون ـ أصروا على قراءة خبر مصر في صفحة الوفيات ورفضوا أن يطالعوه في صفحة الحوادث. فرأوا مصر وقد لفظت ثورتها أنفاسها بعدما صرعتها النوازل، ولم يروا مصر العليلة التي لم تتعاف بعد من آثار سنوات التجريف الذي أحدثته ثلاثة عقود من القهر والفساد.
(2)
لقد تحدث كثيرون عن سقوط رأس النظام واستمرار النظام ذاته، وكانوا محقين في ذلك لا ريب، تحدثوا أيضا عن استشراء الفساد وانهيار الخدمات واهتمام النظام السابق بالطبقات العليا التي نهبت البلد، وتجاهله للطبقات الدنيا صاحبة البلد.
وكان ذلك تقييما صحيحا لا يماري فيه أحد. لكن البصمات التي خلفها النظام السابق على الحياة السياسية والثقافية لم تأخذ حقها من الرصد والتحليل، رغم أنها وثيقة الصلة بما يجري في الساحة السياسية المصرية الآن،
ذلك أن احتكار السلطة وتأميم الحياة السياسية طيلة تلك الفترة لم يؤد فقط إلى موت السياسة وإصابة التيارات السياسية بالإعاقة، وإنما أدى أيضا إلى تشويه الطبقة السياسية ذاتها. فلم يتح لها أن تنضج ويستقيم عودها، ولا سمح لها بأن تتحرك بعيدا عن أعين السلطة وأجهزة الأمن
(كل نشاط للأحزاب خارج مقارها كان يحتاج إلى موافقة مسبقة من جانب أجهزة الأمن بمقتضى القانون).
في الوقت ذاته فإن احتكار السلطة أدى إلى إقصاء كل العناصر المستقلة ناهيك عن المعارضة.
وكانت نتيجة ذلك أن الناشطين السياسيين لم يتح لهم التواصل مع المجتمع، بل لم يتمكنوا من التواصل بين بعضهم البعض، فلا توافرت لهم المعرفة أو الثقة إلى جانب أن التباعد فيما بينهم فتح الباب واسعا للحساسية وإساءة الظن ببعضهم البعض.
لا يقل سوءا عما سبق أن الجماعات السياسية التي غيبت عن الممارسة والمشاركة في السلطة، لم تمكن من بلورة رؤية أو مشروع بديل في تلك الفترة، حيث لم يخطر على بالها أنها يمكن أن تشكل بديلا عن السلطة، وبسبب الإقصاء فإنها لم تكتسب خبرة في إدارة الدولة.
وحين حدث الزلزال الذي أسقط النظام انكشفت كل تلك العورات، وواجهت الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها اختبارا لم تتوقعه ولم تكن مؤهلة للنجاح فيه.
(3)
سئلت أكثر من مرة: هل أصيبت مصر بالعقم، ولماذا لم تظهر فيها بعد الثورة قيادة كاريزمية تحظى بالإجماع الوطني؟
رجوت استبعاد مسألة «الكاريزما» بمعنى القبول العام. لأنها هبة من الله لا تصنع، ومن ثم فهي تعتمد على المصادفة التي يتعذر التعويل عليها، لأنها قد تتحقق في زمن وقد تغيب لعدة أزمنة. وقلت إن القيادات التي تحظى بالإجماع الوطني، بعضه أو كله. لا تظهر إلا من خلال الممارسة الديمقراطية.
ذلك أن إقامة الأحزاب والمجالس النيابية والمحلية وكذلك تشكيل النقابات ومراكز البحوث وتوفير حرية الحركة والتعبير، هذه العوامل تشكل الأوعية أو المختبرات التي تظهر لنا قدرات الأشخاص وكفاءاتهم.
وفي غيبة الممارسة الديمقراطية التي تقمع فيها القوى السياسية وتحرم من أي مشاركة ذات قيمة، في حين يطلب منها أن تتحول إلى مجرد (ديكور) للتجمل السياسي، فإن فكرة ظهور القيادات البديلة تصبح منعدمة.
علما بأن تجريف التربة وتصحيرها لا يتيح لأي نبت طبيعي أن ينمو فيها، وإنما تظل التربة مؤهلة فقط لنمو الشوك والصبار.
هذا التحليل إذا قمنا بتنزيله على الأرض فهو يفسر لنا لماذا كانت الثورة جسما بلا رأس. كما ينبهنا إلى أن الحياة السياسية في مصر بعد الثورة تكاد تبدأ من الصفر أو من شيء قريب منه.
فالثورة كان لديها مشروع إسقاط النظام السابق وهدمه، ولم يكن لديها مشروع لبناء النظام البديل. والثوار لم يحركهم انتماؤهم السياسي ولم تدفع بهم قيادة أو زعامة من أي نوع، وإنما حركهم الدافع الوطني وانتفاضهم على الظلم والفساد. وحين وصفها أكثر من باحث بأنها ثورة إسلامية في لقاء مع بعض الباحثين في إحدى جامعات طهران، تحفظت على ذلك الوصف وقلت إنها أقرب إلى الانتفاضة الفلسطينية التي لا يستطيع أحد أن يدعي أنها انتفاضة إسلامية.
الذي لا يقل أهمية عما سبق أن الذين تصدروا الواجهات بعد الثورة وتحدثت عنهم وسائل الإعلام باعتبارهم (قيادات) لم تفوضهم الثورة للتحدث باسمها، وبالتالي فإنهم لا يمثلون سوى أنفسهم، كما أنهم كانوا بدورهم بلا مشروع ولا خبرة في إدارة الدولة من ناحية ثانية.
وغاية ما يمكن أن يقال بحقهم إنهم خرجوا من عباءة النظام السابق والتحقوا بالحالة الثورية لكنهم ليسوا إفراز الآلة الديمقراطية.
لذلك فإن أي قصور أو تشوه يظهر في أدائهم وخبراتهم ينبغي أن ينسب إلى تأثير تلك الخلفية.
ثمة ملاحظة جانبية ينبغي التنويه إليها في هذا السياق. وهي أننا نتحدث عن الجماعات السياسية المصرية وقياداتها وكأنهم وحدهم المسؤولون عما يجري في البلد هذه الأيام.
وهذا تقدير غير دقيق، لأن أي عاقل لا يستطيع أن يتصور أن الأصابع الخارجية اختفت من مصر وأن اللاعبين المحليين وحدهم هم الذين يحركون الأحداث فيها.
ذلك أن أصابع الأمريكيين والإسرائيليين وغيرهم من الأطراف والقوى التي ظلت ترتع في مصر طوال الثلاثين سنة الماضية على الأقل، لا يمكن أن تكون قد استقالت من مهمتها ووقفت متفرجة على أحداثها بعد الثورة.
لأن المنطق الطبيعي في هذه الحالة يدعوهم إلى مضاعفة نشاطهم فيما يعتبرونه دفاعا عن مصالحهم، بعدما أسقطت الثورة حليفهم الاستراتيجي وجاءت بعناصر أخرى يفترض أنها لا تكن ودا لهم. لسنا بحاجة إلى وقائع محددة في هذا الصدد، لكنني أنبه إلى جانب في المشهد مسكوت عليه وتكاد تعتبره بعض التحليلات غير موجود لمجرد أنه غير مرئي.
(4)
تشوهات الطبقة السياسية تفسر لنا لماذا غابت الرؤية عن الجميع، ولماذا صارت خياراتنا بين سيئ وأسوأ.
ولماذا أصبح مشروع المعارضة هو تحدي الرئيس محمد مرسي وإسقاط نظامه وليس الانتصار لأهداف الثورة والاحتشاد لإنجاحها؟
ولماذا تحولت بعض وسائل الإعلام إلى منابر للتحريض على الإقصاء والعنف،
ولماذا رأينا في الواجهات وعلى المنصات قامات أصغر كثيرا من قامة وحلم الثورة وقيادات حضورها يقتصر على شاشات التلفزيون والصور الصحفية.
ذلك كله نفهمه ويمكن أن نحتمله لبعض الوقت، إلى حين تدور الآلة الديمقراطية ويتاح لنا من خلال الأداء وعبر الصناديق، أن نتعرف على القدرات والأحجام والأوزان.
ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن مثل تلك التشوهات تعد أمرا مفهوما وطبيعيا في مراحل التحول والانتقال من نظام سياسي إلى نظام آخر نقيض له.
لكن الذي يمكن احتماله من جانب المعارضة، يصعب قبوله واحتماله من جانب رئاسة الدولة. ذلك أن موقع الرئاسة يفرض عليها أن تضبط المسيرة وتوضح الرؤية وتحدد للجميع الهدف البعيد منه والقريب.
فربان السفينة ليس كأي عنصر آخر فيها، باعتبار أن أي خطأ من جانبه يعرضها للجنوح أو الغرق.
للأسف فإن الرئيس محمد مرسي لم يخاطبنا في كل ذلك. فلا عرفنا خط سيره، ولا أخبرنا إلى أين هو ذاهب بنا. الأمر الذي أعطانا انطباعا بأنه يسير على خط البيروقراطية المصرية العريقة، ببطء حركتها وتقليدية أهدافها، واكتراثها بالإدارة بأكثر من اكتراثها بالناس.
إن كثيرين يتحدثون عن أخونة الدولة، الذي هو مصطلح ملتبس، لأن العبرة ليست بما إذا لجأت إدارته للاستعانة بالإخوان في بعض المواقع، وإنما الأهم هو ما إذا كان هؤلاء من أهل الكفاءة والخبرة، أم أنهم من أهل الثقة فقط.
ولأن أكثر هؤلاء بغير خبرة فما حدث أنهم تحولوا إلى أدوات في أيدي البيروقراطية العريقة، الأمر الذي انتقل بشعار أخونة الدولة إلى مرحلة عبثية يمكن أن نطلق عليها «دولنة الإخوان».
لا نستطيع أن نأخذ على محمل الجد شعار إسقاط النظام الذي يردده البعض كي يقودنا إلى المجهول. وقد يسلمنا إلى الخيار الأتعس الذي تتجسد فيه كل العيوب والتشوهات التي سبق ذكرها. هذا إذا قبلنا بالمنطق المعوج الذي يدعونا إلى إسقاط الرئيس بعد انتخابه بسبعة أشهر.
لكننا نرى جدية وأهمية في أن يخرج الدكتور مرسي عن صمته ليحدث الشعب برؤيته وتصوره للحاضر والمستقبل، بعدما تعكرت الأجواء وتزاحمت السحب الداكنة في الأفق.
وإذا فعلها فإنه سيحدث ثغرة في جدار الصمت الذي يحتمي به، وسيعطينا أملا في المستقبل يسكت الأصوات المطالبة بالخيار الأتعس.
لقد ارتضينا الرئيس وصوتنا لصالحه لأسباب مفهومة، ولكننا لم نلحظ أنه أدرك أهمية التواصل معنا واسترضائنا. علما بأن أحلامنا تواضعت في الوقت الراهن، حتى صار أملنا ألا ننتقل إلى الخيار الأسوأ والأتعس ليكون لكل حادث حديث بعد ذلك.
 
رأیکم