لا أحد يعرف ما الذي دار في الخلوة الثنائية المغلقة (من دون مرافقين أو مترجمين) بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والملك الأردني عبدالله الثاني.
لكن المناخ العام للعلاقات الأردنية ــــ الروسية، ينبئ بجديد نوعي يتبلور، ويخصّ برنامجاً روسياً لتنظيم شبكة الحلفاء والأصدقاء والتقاطعات في الشرق الأوسط. وهي فرصة التقطتها عمّان، الخائبة الأمل في ترتيب وضعها مع السعودية والخليج، والخارجة من تجربة مريرة مكتظة بالشكوك مع حليفها الأميركي في سنتيّ «الربيع العربي»، حين تعاطفت واشنطن، حتى وقت قريب، مع مشروع انقلاب سياسي إخواني.
في عهد عودتها قوةً عالمية، تستعد لملء الفراغ في الشرق الأوسط، تنظر موسكو إلى الأردن كبلد مهم للغاية؛ فعمّان تلعب أدواراً، تراها موسكو إيجابية، في ثلاثة ملفات أساسية، هي الملف السوري والملف الفلسطيني وملف مكافحة التطرف الديني والإرهاب. وعلى هذه الخلفية بالذات، نستطيع أن نقدّر موضوعات البحث والتفاهمات التي انعقدت في خلوة بوتين ــــ عبدالله الثاني.
يعيش الأردن، منذ 2011، وضعاً قلقاً بسبب انهيار منظومة محوريّ الاعتدال والممانعة، بينما يجدّ، وسط صراعات محلية وإقليمية، في البحث عن صيغة للتموضع الجيوسياسي. وهو يتلمس هذه الصيغة، إقليمياً، بمساعي استعادة العلاقات المميزة مع العراق، ودولياً، بمساعي التوصل إلى شبكة أمان روسية؛ لقد أثبتت روسيا، في خضمّ الأزمة السورية، أنها استعادت مكانتها الدولية ورسخت صدقيتها وبرهنت على وفائها لحلفائها.
بالمقابل، موسكو مرتاحة كليا إلى الموقف الأردني الذي انتقل من الاتزان إلى الحياد إلى القبول الكامل للنظرة الاستراتيجية الروسية حول الأزمة السورية التي تضغط على المملكة في عدة مجالات، كاللاجئين (400 الف حتى الآن) والإرهاب والآثار السلبية لتراجع المبادلات التجارية بين البلدين الشقيقين. وقد نجت عمان، بعد سنتين من الضغوط الخليجية والغربية، من التورّط في الشأن السوري؛ وبذلك، نجحت الدولة الأردنية في امتحان الاستقلالية السياسية. وعلى هذه الخلفية بالذات، وُجدتْ الأرضية الملائمة للشراكة بين البلدين.
قرأ الأردنيون، في الوقت المناسب، التبدلات الحاصلة في السياسة الدولية، ليس فقط لجهة ظهور العالم المتعدد الأقطاب، وإنما، أيضا، لجهة حاجة الأميركيين للتفاهم مع الروس، بما يؤمن الحدّ الأدنى من مصالح واشنطن في الشرق الأوسط، في مرحلة الانسحاب الأميركي المتعدد الوجوه من المنطقة.
الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، حقيقة استراتيجية لا يتطلّب فهمها وفهم دلالاتها، الكثير من العناء، لكن عمان، القريبة من أجواء المطبخ السياسي الأميركي، ربما كانت تعرف أكثر حول التغيير الحاصل في الهيكلية السياسية للمنطقة، منذ انسحاب الأميركيين من عراق تتضح أكثر فأكثر، استقلاليته عن واشنطن ومتانة علاقاته مع إيران. كذلك، وجد المسؤولون الأردنيون، بالملموس، أن الولايات المتحدة تعوّم موقفها من الأزمة السورية، وتترك لحلفائها هامشاً واسعاً للتحرك، يعكس نظرة قوة دولية تعيش زمن التراجع البطيء، وإنما المؤكد، في حجم وجودها الشرق أوسطي. وأوضح صور ذلك التراجع هو الانحناء أمام التحدي الإيراني.
على خلفية إنسحابية، وجد الأميركيون في «الربيع العربي»، فرصة تشجيع شبكة تحالفات إقليمية من الأنظمة الإخوانية والخليجية وتركيا، لإدارة المنطقة ذاتياً. وكان اسقاط النظام السوري هو الشرط الضروري لإنجاز هذا المشروع. لكن دمشق صمدت، ودخل النظامان الإخوانيان في تونس ومصر، سريعاً، في أزمة شاملة، وتفكك الحلف الخليجي، منتهياً إلى عزلة قطرية، بينما خسرت تركيا كل ما بنته من نفوذ وعلاقات في الإقليم الذي تبين أن عثمنته، مجدداً، مجرد وهم.
في الملف الفلسطيني هناك توافق أردني ــــ روسي تقليدي على حل الدولتين. وتستطيع عمان، اليوم، الاستناد إلى الروس، لئلا يمسّ ذلك الحل بالمصالح الاستراتيجية للكيان الوطني الأردني، وخصوصاً تلافي الضغوط الاسرائيلية والغربية لجر الأردن إلى مشروع الكونفدرالية مع الضفة الغربية أو تحميل الأردن المزيد من أوزار التوطين.
ويثق الروس، خصوصاً، بقدرة الأجهزة الأمنية الأردنية في مجال مكافحة الإرهاب. وبالنظر إلى توفّر أرضية من الشراكة السياسية الآن بين البلدين، فمن المتوقع تطوير شراكة أردنية ــــ روسية في هذا المجال الذي يمثّل شاغلاً أساسياً لدى موسكو. وهو ما جعل رئيس الاستخبارات الأردنية، فيصل الشوبكي، العضو الأهم في وفد المسؤولين الأردنيين إلى موسكو.
ما يزال مستوى التعاون الاقتصادي بين الأردن وروسيا، دون المستوى الممكن، حتى في المجال الدفاعي الذي شهد تعاوناً في انتاج مشترك للأسلحة. غير أن الشراكة السياسية مع روسيا الصاعدة، استراتيجياً واقتصادياً، تمثل فرصة ثمينة للأردن لبناء شراكة اقتصادية في مجالات استثمارية كبرى، خصوصاً في الطاقة والتطوير التكنولوجي والتصنيع العسكري.